أنظمة التشغيل والتحديثات

نظام HarmonyOS من هواوي يدخل عالم الحواسيب: بداية حقبة جديدة؟

هل تخيّلت يومًا أن يأتي وقت يتراجع فيه اعتمادنا على أنظمة مثل ويندوز وماك لصالح نظام جديد تمامًا من شركة صينية؟ ربما كان هذا الأمر مستحيلًا قبل سنوات، لكن شركة هواوي جعلته واقعًا ملموسًا مع إطلاقها نظام HarmonyOS، الذي لم يعد حكرًا على الهواتف الذكية والساعات، بل أصبح الآن على أعتاب دخول عالم الحواسيب الشخصية بقوة.

في هذا المقال سنأخذك في رحلة شاملة تشرح كيف وصل HarmonyOS إلى هذه المرحلة، وما الذي يميزه فعلاً عن المنافسين، ولماذا يعتقد الخبراء أنه قد يكون بداية حقبة جديدة في عالم التقنية.

من أزمة إلى مشروع ضخم يغير القواعد

في عام 2019، واجهت هواوي أزمة كادت تطيح بها من عالم الهواتف الذكية، عندما فُرضت عليها قيود أمريكية منعتها من استخدام خدمات ومنتجات شركات أمريكية، وعلى رأسها جوجل. هذا القرار جعل هواتفها الجديدة تفقد إمكانية الوصول إلى متجر Google Play وتطبيقات جوجل الحيوية، وهو ما شكّل ضربة قوية لمبيعاتها في الأسواق العالمية.

لكن داخل أروقة الشركة، لم يكن هناك استسلام. منذ عام 2016، كانت هواوي تعمل بصمت على تطوير نظام تشغيل مستقل باسم “Hongmeng”، لم يكن مخصصًا للهواتف فقط، بل كان مشروعًا طموحًا يهدف إلى إنشاء نظام موحّد لكل الأجهزة. وبعد ثلاث سنوات، ومع تصاعد الأزمة، قررت هواوي الكشف عن هذا النظام رسميًا تحت الاسم العالمي HarmonyOS.

كان الهدف الأساسي واضحًا: عدم الاعتماد على جوجل أو مايكروسوفت أو أي نظام خارجي، وبناء منظومة متكاملة تستطيع هواوي التحكم بها من الألف إلى الياء. ومن هنا بدأت قصة واحدة من أكثر المشاريع التقنية طموحًا في القرن الحالي.

ما هو نظام HarmonyOS؟ وكيف يختلف عن أندرويد وويندوز؟

العديد من المستخدمين في البداية ظنوا أن HarmonyOS هو مجرد نسخة معدلة من أندرويد، لكن الحقيقة أكثر عمقًا من ذلك. صحيح أن الإصدارات الأولى اعتمدت على نواة أندرويد المفتوحة المصدر، لكن الإصدارات الحديثة – خاصة HarmonyOS NEXT – أصبحت مبنية على نواة مستقلة مطورة بالكامل من هواوي.

لكن جوهر الاختلاف لا يكمن فقط في الأكواد البرمجية، بل في الفكرة الأساسية للنظام. بينما تعمل أنظمة مثل أندرويد أو ويندوز على جهاز واحد، يعتمد HarmonyOS على مفهوم النظام الموزع Distributed System. بمعنى آخر، يمكن للنظام أن يعمل على عدة أجهزة في الوقت نفسه وكأنها جهاز واحد. فالهاتف، والساعة، والحاسوب، والسماعة، والتلفاز، وحتى السيارة، جميعها يمكن أن تتكامل مع بعضها داخل منظومة واحدة.

على سبيل المثال، يمكنك بدء مشاهدة فيديو على هاتفك ثم متابعته فورًا على التابلت دون توقف، أو الرد على مكالمة من اللابتوب بينما الهاتف في مكان آخر، أو حتى سحب ملف من جهاز إلى آخر بحركة واحدة فقط. إنه أسلوب جديد تمامًا في التفكير في أنظمة التشغيل.

لماذا دخول HarmonyOS إلى الحواسيب يمثل نقطة تحول؟

بعد نجاح النظام في الهواتف والأجهزة الذكية داخل الصين، قررت هواوي توسيع التجربة لتشمل الحواسيب المحمولة والمكتبية. وأعلنت مؤخرًا عن HarmonyOS NEXT PC Edition المخصص للحواسيب الشخصية، ليكون البديل الصيني الكامل لنظام ويندوز.

ما يجعل هذا الحدث مهمًا هو أن هواوي لا تكتفي بواجهة جميلة أو تجربة سطحية، بل تبني نظامًا متكاملًا ومستقلًا بالكامل. النظام الجديد مصمم ليعمل على معالجات متعددة، بما في ذلك معالجات Kunpeng وARM الصينية، وهو ما يجعله بعيدًا تمامًا عن الاعتماد على إنتل أو AMD.

واجهة النظام أنيقة ومألوفة للمستخدمين، تجمع بين سهولة ويندوز وأناقة macOS، لكنها أكثر سرعة وخفة. فبحسب التجارب المبكرة، يمكن للحاسوب أن يقلع إلى سطح المكتب خلال 8 ثوانٍ فقط، مع استهلاك منخفض للطاقة، ما يجعله مثاليًا للأجهزة المحمولة.

تجربة الاستخدام: بين الواقع والطموح

التقارير التي خرجت من الصين حول النسخة التجريبية من HarmonyOS على الحواسيب كانت إيجابية للغاية. فالمستخدمون وصفوا النظام بأنه سريع ومستقر، مع تجربة استخدام بسيطة وواضحة. أبرز ما يلفت النظر هو ميزة “Super Device”، وهي القلب النابض للنظام الجديد.

من خلال هذه الميزة، يمكن للمستخدم ربط جميع أجهزته ببعضها عبر واجهة ذكية تظهر بشكل بصري على الشاشة. يكفي سحب أيقونة الهاتف إلى اللابتوب حتى يتم الربط بين الجهازين فورًا. بعدها، يمكنك سحب الصور والملفات مباشرة، أو تشغيل تطبيقات الهاتف من الحاسوب دون محاكاة. بل يمكنك حتى الرد على مكالمات الهاتف من جهاز الكمبيوتر.

الأداء في الاستخدام اليومي مستقر جدًا، خاصة في المهام الخفيفة مثل التصفح والكتابة والعمل المكتبي. كما أن واجهة النظام مبنية على مبدأ “سهولة الفهم”، فلا تحتاج إلى خبرة تقنية للتعامل معه.

التحدي الحقيقي: التطبيقات

رغم كل هذا التفوق التقني، إلا أن أكبر تحدٍ أمام HarmonyOS في الحواسيب هو توفر التطبيقات. فالنظام ما زال حديثًا نسبيًا مقارنة بعملاقي السوق: ويندوز وماك. لكن هواوي تعرف ذلك جيدًا، ولهذا بدأت العمل على بناء منصة تطوير جديدة تسمى Harmony App Framework.

المنصة تسمح بإنشاء تطبيق واحد يعمل على جميع الأجهزة – الهاتف، الحاسوب، الساعة – دون الحاجة لتعديل الكود. هذا المفهوم يعرف باسم “البرمجة الموزعة”، ويعني أن التطبيق نفسه يتكيّف تلقائيًا مع نوع الجهاز وحجمه. بهذا الشكل، يمكن للمطورين بناء تطبيقات متوافقة على نطاق واسع دون جهد مضاعف.

ولتسريع الانتشار، أضافت هواوي طبقة توافق مؤقتة تسمح بتشغيل بعض تطبيقات أندرويد على النظام، إلى أن يتم توفير نسخ Harmony أصلية من هذه التطبيقات. ومع السوق الصيني الضخم، تتوقع الشركة أن تصل قاعدة التطبيقات إلى مئات الآلاف خلال فترة قصيرة.

الأمن والخصوصية في HarmonyOS

من المعروف أن هواوي تواجه دائمًا أسئلة حول أمان بيانات المستخدمين، ولذلك جعلت الأمن محورًا أساسيًا في بناء نظامها. فالنظام مزود بما يسمى Harmony Secure Kernel، وهو نظام أمني مستقل مصمم لحماية البيانات على مستوى العتاد والبرمجيات معًا.

في هذا النظام، كل عملية بين الأجهزة تمر من خلال بيئة مغلقة تسمى Trusted Execution Environment. فمثلًا، عند نقل ملف من الهاتف إلى الحاسوب، لا يتم الإرسال إلا بعد توقيع رقمي مشفّر يضمن أن البيانات لم تُعدّل أو تُخترق أثناء النقل. كما أن النظام يمنح المستخدم تحكمًا كاملًا في الأذونات، بحيث يمكنه معرفة أي تطبيق يحاول الوصول لأي جزء من البيانات.

هذا المستوى من الحماية، إلى جانب الطبيعة المحلية للنظام، يمنح هواوي ثقة كبيرة لدى المستخدمين الصينيين الذين يبحثون عن بديل آمن ومستقل.

التكامل بين الأجهزة: التجربة المتكاملة التي تحلم بها الشركات الأخرى

أحد أهم أسباب إعجاب الناس بـ HarmonyOS هو فكرة التكامل الحقيقي بين الأجهزة. في أنظمة أخرى، تحتاج لتطبيقات خارجية أو حسابات سحابية معقدة لتوصيل أجهزتك، أما في HarmonyOS فالأمر يحدث بشكل طبيعي وسلس.

فلو كنت تستخدم هاتفًا من هواوي وحاسوبًا بنظام HarmonyOS، يمكنك:

  • استقبال إشعارات الهاتف على الحاسوب فورًا
  • فتح تطبيقات الهاتف مباشرة في نافذة على الحاسوب
  • نقل الملفات باللمس فقط دون كابل
  • الرد على مكالمات الهاتف أو الفيديو من الحاسوب
  • مشاركة الشاشة بين الأجهزة دون إعدادات مسبقة

كل هذه المزايا تتم من خلال واجهة رسومية بسيطة تجعل المستخدم يشعر وكأنه يستخدم جهازًا واحدًا متعدد المهام.

هل يمكن أن ينافس ويندوز فعلاً؟

السؤال الذي يطرحه الجميع الآن: هل يمكن لنظام HarmonyOS أن ينافس ويندوز في المستقبل؟ الإجابة الواقعية هي أن الطريق ما زال طويلاً، لكن المؤشرات إيجابية جدًا. فالنظام يمتلك بنية قوية، وتصميمًا حديثًا، وأمانًا عاليًا، وتجربة استخدام ذكية.

ومع السوق الصيني الضخم الذي يضم أكثر من مليار مستخدم، يمكن للنظام أن ينجح محليًا بشكل كبير قبل التوسع عالميًا. تمامًا كما فعلت آبل مع macOS في بداياتها قبل أن تصبح قوة عالمية.

إضافة إلى ذلك، هواوي تعمل على تطوير متجر تطبيقات للحواسيب يشبه AppGallery الخاص بالهواتف، مما يعني أن النظام سيصبح مكتفيًا ذاتيًا خلال فترة وجيزة.

خلاصة

نظام HarmonyOS لم يعد مجرد رد فعل على العقوبات الأمريكية، بل أصبح مشروعًا استراتيجيًا طموحًا يهدف إلى بناء منظومة تشغيل متكاملة ومستقلة عن الغرب. ودخوله إلى عالم الحواسيب ليس تجربة عابرة، بل خطوة محسوبة تمهّد لعصر جديد من المنافسة في سوق أنظمة التشغيل.

ربما لا يهدد ويندوز أو ماك في المدى القريب، لكن المؤكد أن هواوي تمهد الطريق لعالم متعدد الأنظمة أكثر استقلالًا، حيث لا تكون السيطرة حكرًا على شركتين فقط.

باختصار، ما بدأ كأزمة تحوّل إلى بداية حقبة جديدة في عالم التقنية – حقبة تقودها شركة قررت أن تبني عالمها بنفسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *